طموحات تركيا في أفريقيا تتجاوز المصالح الاقتصادية (الدكتور باكري صامب)

إن انفتاح تركيا على أفريقيا يستدعي نقاشات كثيرة واهتماما كبيرا في السنوات الأخيرة في أوساط الدبلوماسيين والمتخصصين في العلاقات الدولية الذين يرون أن تعزيز العلاقات التعاونية مع القارة من أكبر الركائز الأساسية لسياسة تركيا الخارجية. وأما الخبراء الغربيون فكثيرا ما يحللون هذه العلاقات من خلال منظور التدخل " الأجنبي " في فضاء يعتبره البعض مجالا خاصا للغربين لا غيرهم، كما يحلله البعض الآخر من منظور المنافسة الجديدة بين القوى التي تجسد الديمقراطية الليبرالية والقوى التي تمثل عودة الأنظمة الاستبدادية

ولتحليل دور تركيا في أفريقيا من وجهة نظر أفريقية في ظل الحقائق الجيوسياسية الجديدة الناشئة في المنطقة، لقد أجرت الصحفية سناء ياساري في تلفزيون ميديا تيفي (Medi1TV) مقابلة مع الأستاذ الدكتور باكري صامب، المدير الإقليمي لمعهد تمبكتو، حول مسار تركيا في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى كجزء من مداخلاته الأسبوعية في التلفزيون المذكور. وفيما يلي المقابلة

صادف انتخاب السيد أردوغان لولاية جديدة مع انتشار جدل واسع ومناقشة عارمة حول سياسيات تركيا في أفريقيا، هل العلاقات التركية والإفريقية ستشهد تطورا مستمرا خلال الفترة المقبلة وتتعزز بشكل أكبر في ظل حكم السيد طيب أردوغان ؟

إن الرئيس رجب طيب أردوغان يحاول تكثيف علاقات بلاده مع أفريقيا، وتصميم سياساتها مع دول المنطقة، بتنويع الروابط في السياسة الخارجية وإقامة علاقات وثيقة مع الدول الأفريقية من خلال شراكات جديدة في المجالات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية. ومن جانب أخرى، تسعى تركيا إلى تطهير البلدان الأفريقية من نفوذ فتح الله غولن، الذي يتهمه السيد أوردغان بتدبير الانقلاب الفاشل في عام 2014. ومنذ أن أخفق هذا الانقلاب يشن النظام حربا شاملة ضد زعيم حركة الخدمة بوضع ضغوط شديدة على دول المنطقة للتخلص من نفوذه على الرغم من أن حركة فتح الله غولن الإسلامية (الخدمة) تُعتبر إحدى الشبكتين القويتين اللتين تنوبان الدبلوماسية التركية في منطقة الساحل وتتلقى قبولا حسنا في أوساط المثقفين الأفريقيين والفاعلين الاقتصاديين الرئيسين للقارة. وأما الشبكة الثانية فهي رابطة تركيا الأطلسية السنغالية. وتتمتع حركة الخدمة التي يتزعمها غولن بقدرة كبيرة على الاستقطاب والتعبئة في دول الخارج حيث تجمع أكثر من 15000 عضو ينشطون في مشاريع واسعة النطاق في تركيا وخارجها

 وعلى الرغم من الاهتمام بأفريقيا، إلا أن موقف الرئيس أردوغان بعد عودة طالبان إلى السلطة في أفغانستان، وتصريحاته حول اللاجئين الذين يهددون أمن تركيا واستقرارها الداخلي، و "قضية الكردية"، تمثل مخاوف تركيا الدولية، وتقف حجر عثرة أمام تحركها السريع نحو إثبات نفسها. إن تركيا، في سياق تعزيز علاقاتها مع أفريقيا، تفرض نفسها في التجارة العالمية وتلعب دورا بارزا حيث نشهد اليوم تفاعلا ديناميا ومكثفا بينها والبلدان الأفريقية في مجالات التجارة والأعمال والدبلوماسية على الرغم من وجود منافسين آخرين على الساحة. لقد أصبحت تركيا اليوم طرفاً مؤثرا بوضوح في إفريقيا ولها مكانة فريدة بحكم ما حققته سياستها الخارجية متعددة الأبعاد على حساب القوى الاستعمارية السابقة، لكن من الواضح أن طموحاتها تذهب إلى ما هو أبعد من الاقتصاد

كيف تمكنت تركيا من فرض نفسها في أفريقيا إلى حد منافسة القوى التقليدية في سياق الشراكات الجديدة الجارية في القارة؟

أطلقت تركيا أولى مبادراتها في القارة في عام 2000 لدعم سياساتها الخارجية، لكن لم تكن استثماراتها في ذلك الوقت مؤثرة أو عملاقة، ولما وصل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، سنة 2002، بدأت هذه السياسة تجاه إفريقيا ترسم خطوطا عريضة وخاصة عندما أعلنت الحكومة عن استراتيجيتها الجديدة تجاه أفريقيا بوثيقة بعنوان "استراتيجية تطوير العلاقات الاقتصادية مع إفريقيا". ثم بعد ذلك، أنشأ صانع القرار التركي الوكالةَ التركية للتعاون والتنمية (TIKA) اقتداءً بالشركاء التقليديين و"الاعبين" الجدد في المنطقة، وتسليحًا لنفسها كأداة تبادل فعالة لدعم هذه سياستها الأفريقية على غرار المغرب التي أنشأت الوكالة المغربية للتعاون الدولي (AMCI) لترسيخ بصماتها في القارة. وهذه الوكالة التركية افتتحت مكتبا إقليميا في داكار في عام 2007 بهدف إتمام هذه الخطة السياسية وتنفيذها بشكل ملموس للاستفادة من أفريقيا الواعدة، وتأكيد استقرارها فيها.  وفي هذا السياق، أكد دبلوماسي أن السياسة الخارجية لتركيا تجاه أفريقيا "لا تستند فقط إلى الأهداف الاقتصادية والتجارية، ولكنها تتضمن أيضا نهجا شاملا يشمل تنمية أفريقيا من خلال المساعدة التقنية والمشاريع في مجالات مثل مكافحة الأمراض والتنمية الزراعية والري والطاقة والتعليم، وتدفق مستمر للمساعدات الإنسانية". ويضاف إلى ذلك أن أنقرة تحاول زيادة نفوذها باستخدام كل القنوات الدبلوماسية والاستثمارية والتعاون الأمني والعسكري وتوظيف أدوات القوة الناعمة المتمثلة في الثقافة والتاريخ لتنويع تأثيرها والمساهمة كلاعب فعال في المسرح العالمي

نعلم أن تركيا بعيدة جدا عن المنطقة الأفريقية، ثقافيا وجغرافيا، ولكن ذلك لم يمنعها من بسط نفوذها إليها، هل هذا التأثير من ثمرات جهد استراتيجي جديد لم يهتم بها الفاعلون المنافسون في العقود الأخيرة؟

إن الواقع الذي لا مناص منه هو أن هناك أعباء ثقيلة لا تصب في صالح سياسة التأثير الفعال، ومن هذه الأعباء آثار الماضي وتعلقها على عقلية الجيل الأفريقي الصاعد. إن أنقرة تسعى لتحقيق اختراق اقتصادي كبير في القارة، ولا سيما مع إنشاء بنى تحتية عملاقة في مختلف الدول، مثل مطار نيامي في النيجر، ومشاريع المدينة الجديدة في السنغال (ديامنياديو) وغيرها، ومن ناحية التربية الدينية، تسعى أنقرة لتأكيد تأثيرها من خلال إعطاء مكانتها دينامية جديدة، حيث بنت معهدا إسلاميا في كوناكري وأرسلت معلمين إلى القارة ليحملوا رسالة دولتهم إلى القارة، وهؤلاء المعلمون تراقبهم تركيا عن كثب منذ محاولة الانقلاب المخفق في عام 2014

 وبالرغم من الخطة الاستراتيجية القوية الذي بنتها تركيا، لا بد من الاعتراف بأن تضاريس الساحل لا تزال تشكل تحديات وعراقيل مهمة يجب عليها مواجهتها من أجل مشاركة فعالة في اللعبة السياسية، وذلك لأن أنقرة لا تملك حتى الآن القوة الاقتصادية الكبيرة على غرار الصين بقنواتها الدبلوماسية والاستراتيجية، ولا الرسوخ التاريخي داخل النخبة السياسية مثل الأطراف الغربية، ولا حتى المرونة الدبلوماسية الكافية لبناء رأس مال صوري للتكافل مع مثيلاتها مثل المغرب والمملكة العربية السعودية في سوق السلع الرمزية والدينية. ولكن النقاط التي ناقشناها سابقا إن دلت على شيء فإنما تدل على أن الحضور التركي المتزايد وبروز دورها في القارة السمراء أمر لا جدال فيه كما أن علاقاتها مع الشركاء الأفارقة أحرزت تقدما سريعا وتمثل اليوم واقعا جيوسياسيا يجب أن يُؤخذ في الحسبان ويُعار له الانتباه الكافي